سورة الإسراء - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


قلت: {سبحان}: مصدر غير متصرف، منصوب بفعل واجب الحذف، أي أسبحُ سبحان. وهو بمعنى التسبيح، أي: التنزيه، وقد يستعمل عَلَمًا له، فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف، كقول الشاعر:
قَدْ أَقُولُ لَمَّا جَاءَني فَخْرُهُ *** سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ
و{ليلاً}: منصوب على الظرفية لأسرى. وفائدة ذكره، مع أن السرى هو السير بالليل، ليفيد التقليل، ولذلك نكّره، كأنه قال: أسرى بعبده مسيرة أربعين ليلة في بعض الليل، وذلك ابلغ في المعجزة. ويقال: أسرى وسرى، رباعيًا وثلاثيًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {سبحان الذي أسرى بعبده} وهو: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: تنزيهًا له عن الأماكن والحدود والجهات، إذ هو أقرب من كل شيء إلى كل شيء. وإنما وقع الإسراء برسوله- عليه الصلاة والسلام- ليقتبس أهلُ العالم العلوي، كما اقتبس منه أهل العالم السفلي، فأسرى به {ليلاً من المسجد الحرام} بعينه؛ لِمَا رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: «بَينَما أَنَا في المسْجِدِ الحَرَامِ في الحِجْر، عِنْدَ البَيْتِ، بَيْنَ النَّائِم واليقْظَانِ، إذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بالبُراقِ».
أو: من الحرم؛ لِمَا رُوي أنه كان نائمًا في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء، فأُسْرِيَ به، وسماه مسجدًا؛ لأن الحرم كله مسجد. قاله البيضاوي. قلت: والظاهر أنه وقع مرتين: مرة بجسده من البيت، ومرة بروحه من بيت أم هانئ. والله تعالى أعلم بما كان.
قال في المستخْرج من تفسير الغزنوني وغيره: قيل: كان رؤيا صادقة، وقيل: أسرى بروحه، وهو خلاف القرآن، وإن أسند إلى عائشة- رضي الله عنها-، والجمهور على ما رواه عامة الصحابة، دخل كلام بعضهم في بعض، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتاني جبريل عليه السلام، وإذا دابة فوق الحمار ودون البغل، خطوها مد بصرها، فمرّ بي بين السماء والأرض إلى بيت المقدس، فَنُشِرَ لي رَهْطٌ من الأنبياء، فصليت بهم. وإذا أنا بالمعراج، وهو أحسن ما رأيت، فعرج بي، فرأيت في سماء الدنيا رجلاً أعظم الناس وجهًا وهيكلاً، فقيل: هذا أبوك آدم، وفي السماء الثانية شابيْن، فقيل: هما يحيى وعيسى، وفي الثالثة رجلاً أفضل الناس حُسنًا، فقيل: أخوك يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم- صلوات الله على جميعهم-. فانتهيتُ إلى سِدرة المنتهى، فَغَشِيَتْهَا ملائكةٌ، كأنهم جراد من ذهب، فرأيتُ جبريل عليه السلام يتضاءل كأنه صَعْوة- أي: عصفور- فتخلف، وقال: وما منا إلا له مقام معلوم، فجاوزت سبعين حجابًا، ثم احتملني الرفرف إلى العرش، فنُوديتُ: حَيِّ ربك. فقلت: لا اُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
فلما أخبر بما رأى كذَّبه أهل مكة، ولو كان في النوم ما أنكره المشركون. وقيل: كانا معراجين، بمكة والمدينة، في النوم واليقظة. اهـ.
قلت: وقوع المعراج بالمدينة غريب. قال المهدوي: مرْتَبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العَلِية خاصة بنبينا، لم يكن لغيره من الأنبياء. وعدَّه السيوطي من الخصائص. قال ابن جزي: وحجة الجمهور: أنه لو كان منامًا، لم تُنكره قريش، ولم يكن في ذلك ما يُكَذَّبُ، ألا ترى أن أُم هانئ قالت له- عليه الصلاة والسلام-: «لا تُخبر بذلك أحدًا». وحجة من قال إنه كان منامًا: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60]، وإنما يقال: الرؤيا، في المنام، ويقال، فيما يرى بالعين: رؤية، وقوله، في آخر حديث الإسراء: «فاستيقظتُ وأنا في المسجد الحرام»، ثم قال: وقد يجمع بينهما بأنه وقع مرتين. اهـ.
وقوله تعالى: {إلى المسجد الأقصى} هو: بيت المقدس؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، {الذي باركنا حوله} ببركات الدين والدنيا؛ لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار. أسرينا به؛ {لِنُريه من آياتنا} الدالة على عجائب قدرتنا، ونكشفَ له عن أسرار ذاتنا، فأَطْلعه الله على عجائب الملكوت، وأراه سَنَا الجبروت. رَوَى عكرمةُ عن ابن عباس: أنه قال: قد رأى محمدٌ ربه، قلت: أليس الله يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعَام: 103]، قال: ويحك، ذلك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين. اهـ. قلت: معنى كلامه: أنه إذا تجلى بنوره الأصلي، من غير واسطة، لا يمكن إدراكه، وأما إذا تجلى بواسطة المظهر فإنه يُمكن إدراكه، والحاصل: أن الحق تعالى إنما يتجلى على قدر الرائي، لا على قدره؛ إذ لا يطيقه أحد. وسيأتي، في الإشارة، بقية الكلام عليه، إن شاء الله. {إِنه هو السميعُ البصير} أي: السميع لأقوال حبيبه في حال مناجاته، البصيرُ بأحواله، فيكرمه ويُقربه على حسب ذلك.
الإشارة: قال بعض الصوفية: إنما قال تعالى: {بعبده}، ولم يقل: بنبيه: ولا برسوله؛ ليدل على أن كل من كملت عبوديته كان له نصيب من الإسراء. غير أن الإسراء بالجسد مخصوص به- عليه الصلاة والسلام-، وأما الإسراء بالروح فيقع للأولياء؛ على قدر تصفية الروح، وغيبتها عن هذا العالم الحسي، فتعرج أفكارهم وأرواحهم إلى ما وراء العرش، وتخوض في بحار الجبروت، وأنوار الملكوت، كلٌّ على قدر تخليته وتحليته. وإنما خص الإسراء بالليل؛ لكونه محل فراغ المناجاة والمواصلات، ولذلك رتب بعثه مقامًا محمودًا على التهجد بالليل في هذه السورة. قاله المحشي.
وقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى}، قال الورتجبي: أي: تنزه عن إشارة الجهات والأماكن في الفوقية، وما يتوهم الخلق؛ من أنه إذ أوْصل عبده إلى وراء الوراء، أنه كان في مكان، أي: لا تتوهموا برفع عبده إلى ملكوت السماوات، أنه رفع إلى مكان، أو هو في مكان، فإن الأكوان والمكان أقل من خردلة في وادي قدرته، أي: في بحر عظمته؛ ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «الكون في يمين الرحمن أقل من خردلة» والعندية والفوقية منه، ونزّه نفسه عن أوهام المشبّهات، حيث توهموا أنه أسرى به إلى المكان، أي: سبحان من تنزه عن هذه التهمة. اهـ. وقال القشيري: أرسله الحق تعالى؛ ليتعلم أهلُ الأرض منه العبادة، ثم رَقَّاه إلى السماء ليتعلّمَ منه الملائكةُ- عليهم السلام- آدابَ العبادة، قال تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} [النّجْم: 17]، وما التَفَتَ يمينًا ولا شمالاً، ما طمع في مقام، ولا في إكرام، تحرر عن كلِّ طلبٍ وأرَبٍ، تلك الليلة. اهـ.
قلت: ولذلك أكرمه الله تعالى بالرؤية، التي مُنِعَ منها نبيه موسى عليه السلام، حيث وقع منه الطلب ربما دلهم الأدب على ترك الطلب، وقال الورتجبي: أسرى به عن رؤية فعله وآياته، إلى رؤية صفاته، ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته، وأشهده مَشاهد جماله، فرأى الحق بالحق، وصار هنالك موصوفًا بوصف الحق، فكان صورتُه روحَه، وروحُه عقلَه، وعقلُه قلبَه، وقلبُه سره، فرأى الحق بجميع وجوده؛ لأن وجوده فانٍ بجميعه، فصار عينًا من عيون الحق، فرأى الحق بجميع العيون، وسمع خطابه بجميع الأسماع، وعرف الحق بجميع القلوب. اهـ.
وقال، في قوله تعالى: {إِلى المسجد الأقصى}: سبب بداية المعراج بالذهاب إلى المسجد الأقصى، لأن هناك الآية الكبرى؛ من بركة أنوار تجليه لأرواح الأنبياء وأشباحهم، وهناك بقربه طور سيناء، وطور زيتا، والمصيصة، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى، وفي تلك الجبال مواضع كشوف الحق، ولذلك قال: {باركنا حوله}، انظر تمامه.


قلت: {ذرية}: منادى، أي: يا ذرية من حملنا مع نوح، والمراد: بني إسرائيل. وفي ندائهم بذلك: تلطف وتذكير بالنعم، وقيل: مفعول أول بتتخذوا، أي: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، فتكون كقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً} [آل عِمرَان: 80].
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وآتينا موسى الكتابَ} التوراة {وجعلناه} أي: التوراة {هُدًى لبني إِسرائيل}، وقلنا: {ألاّ تتخذوا من دوني وكيلاً} تُفوضون إليه أموركم، وتُطيعونه فيما يأمركم. بل فوضوا أموركم إلى الله، واقصدوا بطاعتكم وجه الله، يا {ذريةَ مَنْ حملنا مع نوح}، فاذكروا نعمة الإنجاء من الغرق، وحملَ أسلافكم في سفينة نوح، {إِنه كان عبدًا شكورًا}؛ يحمد الله ويشكره في جميع حالاته. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وَحَثٌّ للذرية على الاقتداء به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو، إفراد الوجهة إلى الحق، ورفعُ الهمة عن الخلق، حتى لا يبقى الركون إلا إليه، ولا الاعتماد إلا عليه، وهو مقتضى التوحيد. قال تعالى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً} [المُزمّل: 9]. وبالله التوفيق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقضينا إلى بني إِسرائيل} أي: أخبرناهم وأوحينا إليهم {في الكتاب}؛ التوراة، وقلنا: والله {لتُفسدنَّ في الأرض مرتين} إلخ. أو: قضينا عليهم {في الكتاب}؛ اللوح المحفوظ، {لتُفسدنَّ في الأرض مرتين} إلخ. أو: قضينا عليهم {في الكتاب}: اللوح المحفوظ، {لتُفسدُنَّ في الأرض مرتين} أي: إفسادتين، أُولاهُمَا: مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعياء، وقيل: أرمياء. وثانيتهما: قتل زكريا ويحيى، وقَصْدُ قتل عيسى عليه السلام، {ولتَعلُنَّ عُلوًّا كبيرًا}؛ ولتستكبرن عن طاعة الله، أو لتظلمن الناس وتستعلون عليهم علوًا كبيرًا.
{فإِذا جاء وعدُ}؛ عقاب {أُولاهما} أي: أول مرتي الإفساد؛ بأن أفسدوا في الأرض المرة الأولى {بعثنا عليكم عبادًا لنا}؛ بختنصر وجنوده {أُولي بأس شديد}؛ ذوي قوة وبطش في الحرب شديد، {فجاسوا}؛ فترددوا لطلبكم {خلال الديار}؛ وسطه؛ للقتل أو الغارة، فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم، وحرقوا التوراة، وخربوا المسجد. وفي التذكرة للقرطبي: أنه سلط عليهم في المرة الأولى بخُتنصر، فسباهم، ونقل ذخائر بيت المقدس على سبعين ألف عَجَلَة، وبقوا في يده مائة سنة. ثم رحمهم الله تعالى وأنقذهم من يده، على يد ملك من ملوك فارس، ثم عصوا، فسلط عليهم ملك الروم قيصر. اهـ. قال تعالى: {وكان وعدًا مفعولاً} أي: وكان وعد عقابهم وعدًا مقضيًا لا بدّ أن يُفعل.
{ثم رددنا لكم الكرّة} أي: الدولة والغلبة {عليهم} أي: على الذين بُعثوا عليكم، فرجع المُلك إلى بني إسرائيل، واستنقذوا أسراهم، فقيل: على يد بهْمَن بن إسفنديار؛ ملك فارس، فاستنقذهم، ورد أسراهم إلى الشام، وملَّكَ دَانْيال عليهم، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر، وقيل: على يد داود عليه السلام حين قتل جالوت. قال تعالى: {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثرَ نفيرًا} أي: عددًا مما كنتم. والنفير: من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل: جمع نَفر، وهم: المجتمعون للذهاب إلى الغزو.
ثم قال تعالى لهم: {إِنْ أحسنتم} بفعل الطاعة والعمل الصالح، {أَحْسَنْتُمْ لأنفسكم}؛ لأن ثوابه لها، {وإِن أسأتم فلها}؛ فإنَّ وبالها عليها. وذكر باللام للازدواج. {فإِذا جاء وعدُ الآخرة} أي: وعد عقوبة المرة الأخيرة، بأن أفسدوا في المرة الآخرة، بعثنا عليكم عبادًا لنا آخرين، أُولي بأس شديد {ليَسُؤوا وجوهكم}، يجعلوها تظهر فيها آثار السوء والشر، كالكآبة والحزن، كقوله: {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [المُلك: 27] {وليدخلوا المسجد}؛ بيت المقدس {كما دخلوه أول مرة وليُتبروا}؛ وليُهلكوا {ما عَلوا} عليه {تتبيرًا}؛ إهلاكًا، أو مدة علوهم. قال البيضاوي: وذلك بأن الله سلَّط عليهم الفرس مرة أخرى، فغزاهم ملكُ بابِل، اسمه حَرْدُون، وقيل: حَرْدوس، قيل: دخل صاحب الجيش مَذبح قرابينهم، فوجد دمًا يغلي، فسأل عنه، فقالوا: دم قربان لم يُقبل منا.
فقال: ما صدقتموني، فقتل عليه ألوفًا منهم، فلم يهدأَ الدم. ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدًا، فقالوا: دم يحيى، فقال: لِمثل هذا ينتقم منكم ربكم، ثم قال: يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك، فاهدأ بإذن الله، قبل ألاَّ أُبقي منهم أحدًا، فهدأ. اهـ.
وقال السهيلي في كتاب التعريف والإعلام: المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل، وكان إذ ذاك عليهم بختنصر، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه. وأما في المرة الأخيرة: فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا. فقيل: بختنصر، وهذا لا يصح؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل. اهـ. وقول الجلال السيوطي: وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا، فبعث عليهم جالوت وجنوده، ولا يصح؛ لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا، وهو باطل.
ثم قال تعالى لبني إسرائيل: {عسى ربُكم أن يرحَمكم} بعد المرة الأخرى ويجبر كسركم، {وإِن عُدتُم عُدْنَا} إلى عقوبتكم، وقد عادوا بتكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد قتله، فعاد إليهم بتسليطه عليهم، فقتل من بني قريظة سبعمائة في يوم واحد، وسبى ذراريهم، وباعهم في الأسواق، وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين. هذا في الدنيا، {وجعلنا جهنم للكافرين} منهم ومن غيرهم {حصيرًا}؛ محبسًا، لا يقدرون على الخروج منها، أبدَ الآباد. وقيل: بساطًا كبسط الحصير، كقوله: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعرَاف: 41]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد قضى الحقُّ جلّ جلاله ما كان وما يكون في سابق علمه، فما من نفَس تُبديه إلا وله قدر فيك يُمضيه. فالواجب على العبد أن يكون ابن وقته، إذا أصبح نظر ما يفعل الله به. فأسرار القدر قد استأثر الله بعلمها، وأبهم على عباده أمرَها، فلو ظهرت لبطل سر التكليف. ولذلك لما سُئل عنه سيدنا علي- كرم الله وجهه- قال للسائل: (بحر عميق لا تطيقه)، فأعاد عليه السؤال، فقال: (طريق مظلم لا تسلكه)؛ لأنه لا يفهم سر القضاء والقدر، إلا من دخل مقام الفناء والبقاء، وفرَّق بين القدرة والحكمة، وبين العبودية والربوبية، فإذا تحقق العارف بالوحدة، عِلَمَ أنَّ الحق تعالى أظهر من خلقه مظاهر أَعدهم للإكرام، وأظهر خلقًا أعدهم للانتقام، وأبهم الأمر عليهم، ثم خلق فيهم كسبًا واختيارًا فيما يظهر لهم، وكلفهم؛ لتقوم الحجة عليهم، وتظهر صورة العدل فيهم. {ولا يظلم ربك أحدًا}. فالقدرة تُبرز ما سبق في الأزل، والحكمة تستر أسرار القدر. لكن جعل للسعادة علامات كالتوفيق والهداية للإيمان، وللشقاوة علامات؛ كالخذلان والكفران. نعوذ بالله من سوء القضاء وحرمان الرضا. آمين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8